خالد عمر بن ققه
” حين يصل مجرى الوادي إلى نهايته، وتبلغ حملته ـ غير السياسيّة ـ ذروتها، ويتَّخذ طريقه القدري في تكرار شبه أبدي في مرحلة ما بعد الغدير وصوته، نحو عودة تنتهي إلى تكريس البداية حين كان خالياً إلا من أحجاره، تكون هذه الأخيرة هي الثابت الوحيد، وعلى مِثْلها يمكن أن نقيس ثوابت الجغرافيا، وحوادث التاريخ، ومنظومة القيم، وعمق الإيمان، وعلاقات البشر، ومستقبل الدول، ودور القادة، ومصير الشعوب، وحركة الزمن، ومسار الحياة.. هنا في هذه المقال كثير أو قليل من هذا وذاك”
الخطاب الرسمي في كلٍّ الجزائر والمغرب هذه الأيام، ينطلق من قناعتين مختلفين، قاعدة” الحسم” لتركة الماضي من أجل الحاضر والمستقبل، كما هو الأمر في الموقف الجزائري، وقد جاء واضحا ومحددا من طرف الرئيس عبد المجيد تبون منذ انتخابه إلى الآن، وفي كل تصريحاته كان يأخذ طابع” الكر”، وعدم التولي يوم الزحف السياسي المبني على ثوابت السياسة الجزائرية المعروفة، والتي تسببت لها في كثير من العداوات بل والمشكلات، حتى داخل محيطها خاصة مع المغرب، التي يدار الخلاف معها اليوم سياسيا بعقلية” المعركة العسكرية”، ولكن ذلك كله من أجل الوصول إلى حل.
القناعة الثانية تنطلق من قاعدة” التضخيم”.. تضخيم الأحداث وترويجها ضمن الاعتماد على دعم دولي ـ وهمي أو حقيقي ـ وذلك هو الطرح المغربي، وهو يمثل نوعا من الفر خارج المشترك العقائدي، والقومي، وحتى الجغرافي، وفي هذا الفر المأمول يعول كثيراً على الضغط من خلال الآخر، القريب والبعيد.
هنا تقاد المعركة العسكرية بعقليّة سياسيّة، وتلك مشكلة حقيقية، ستؤدي إلى تصادم الإرادتين مهما طال الزمن، والسبب في نظر البعض أن صناعة القرار المغربي، وإن بدت لنا نتاجاً وطنيّاً ملكيّاً، إلا أنه بالأساس يأتي متأثرا بتلك الحماية الأجنبيّة، التي تحولت إلى وصاية، وكأن المملكة المغربيّة في صناعة قرارها تَستَمْتُع بالإرث الاستعماري، بل لا تزال مُبْقِية عليه، والأكثر من هذا نجد المملكة مجبرة على اشراك أطراف ذات ثقل يَنُوء بحمله الشعب المغربي.
شَعْبَان مُغيَّبَان
إذن نحن أمام قناعتين تقعان على طرفي نقيض، الأولى ـ كما ذكرنا آنفا ـ قناعة سياسيّة جزائرية تسعى إلى حل مع الجار المغربي بمنهجية الحسم العسكري، وهذا تفرضه طبيعة الفعل السياسي القائم على” الكر”، والجزائر في هذا الاختيار ــ حسب فهمي ـ مستندة إلى ثبات في الموقف، ودقّة في المعلومات، واستراتيجية في التخطيط، ويقين في الدبلوماسية، ووعي بألاعيب الأمم في المنطقة.
والثانية، قناعة عسكرية مغربيّة تسعى أيضا إلى حل مع الجار الجزائري بمنهجية سياسيّة، تصدرها إلى العالم تحت شعار الوحدة الترابيَّة التي شنّت من أجلها حربا علينا في الماضي، وهي في أدبيات وقناعات بل ومواقف بعض السياسيين المغاربة لا تقف عند حدود الصحراء الغربية، ولأجل ذلك تَجْمع المملكة كل التناقضات لأجل تحقيق هدفها، حتى لم تمّ ذلك بإدخال جملة العناصر المختلفة فيها مع الجزائر زمانا ومكانا.
وأمام القناعتين السابقتين، يبدو الشعبان الجزائري والمغربي مغيبين تماما، حيث يصاغ الخطاب السياسي، وتتخذ القرارات ـ في السلم والحرب ـ ويتم الاتهام بالإرهاب، ثم تغلق الحدود، ويدفعان نحو قطيعة دمويّة، وفصل جغرافي وعزلة، ونكران للتاريخ، وتراجع لمنظومة القيم، والأكثر من هذا يشكلان معاً من ناحية الوعي السياسي ضمن الطرح الفرعوني لجهة القول” لا أريكم إلا ما أرى”، منطلقا للقول والفعل قد لا يكون لهما بعده منقلبا، مكانة دوراً.
لهذا كلّه تنتابني حيرة شديدة، ويؤرقني الوعي وأنا أتابع دَفْع القناعتين إلى ساحة المعركة، في انتظار تحويلهما إلى صراع دموي لإرادة القيادتين، المغربية والجزائرية، سواء أكان ذلك بإيعاز منهما، أو تطوُّعا من بعض الأطراف، في سعي حثيث لإرضائهما.
الجزائر 40% من خطاب العرش
لا شك أننا جميعا ـ في الجزائر والمغرب ــ لا نودُّ الوصول إلى تصادم الإرادتين، ومن هنا يمكن تقديم قراءة سياسيّة للخطاب الذي ألقاه العاهل المغربي محمد السادس، بمناسبة الذكرى الثانية والعشرين لجلوسه على العرش، من منطلق أن كثيراً ممَّا جاء فيه مثَّل دعوة لعدم تصادم الإرادتين الجزائرية ــ المغربية، في الظاهر.. فماذا عن الباطن؟
بداية، وَجَبَ القول هنا، أنه من غير الحكمة عدم مناقشة خطاب الملك المغربي، لكن أيضا من غير الرُّشد عدم التعمق في تحليله في ظل الأوضاع الراهنة، والتي بلغت أشدها بين بلاده والجزائر.
بقراءة خطاب الملك محمد السادس واحصاء كلماته، سنجد أن مجموعها بلغ 1197 كلمة، لم تكن عادلة في توزيعها، وإنما جاءت قسمتها ضيزى بين المواضيع والقضايا التي طرحها الملك، وهي على النحو التالي:
أوَّلاً ــ حديث عن البيعة( 104 كلمة) بنسبة 8،68% من العدد الإجمالي لكلمات الخطاب.
ثانياً ـ توصيف الوضع العام الوبائي والاقتصادي( 420 كلمة) بنسبة 35،08% من العدد الإجمالي لكلمات الخطاب.
ثالثاً ــ خطاب موجه للجزائر( 483 كلمة)، بنسبة 40،35% من العدد الإجمالي لكلمات الخطاب.
رابعاً ــ ذكر دور القوات المسلّحة( 41 كلمة) بنسبة 3،42% من العدد الإجمالي لكلمات الخطاب.
خامساً ـ حديث عن الأجداد( 30 كلمة) بنسبة 2،5% من العدد الإجمالي لكلمات الخطاب.
سادساً ــ كلمات متفرقة جامعة بين القضايا( 119 كلمة ) بنسبة ( 9،94%) من العدد الإجمالي لكلمات الخطاب.
توأمان متكاملان
من القضايا السابقة التِّي شملها الخطاب، يهمنا في هذا المقال التحليلي، قضية العلاقة مع الجزائر، حيث حمل الخطاب دعوة تبدو في ظاهرها مدّ جسور لتجاوز مطبات التاريخ الواقعة حاليا بين المغرب والجزائر، بغض النظر عن دور البلدين فيها، انطلاقا من” مواصلة جهود صادقة” من أجل توطيد الأمن والاستقرار، في محيطه الإفريقي والأورو- متوسطي، وخاصة في جواره المغاربي”، وتبعاً لذلك تمت دعوة الملك في خطابه إلى الآتي ضمن سياسة الفر التي تحدثنا عنها في بداية المقال:
ــ العمل سويّا، دون شروط، من أجل بناء علاقات ثنائية، أساسها الثقة والحوار وحسن الجوار.
ــ الوضع الحالي لهذه العلاقات لا يرضي المغرب، وليس في مصلحة الشعبين وغير مقبول من طرف العديد من الدول.
ــ ضرورة فتح الحدود بين بلدين جارين، وشعبين شقيقين، لأن ذلك هو الوضع الطبيعي.
ـ هناك مسؤولية سياسية وأخلاقية لبقاء الحدود مغلقة بين الجارتين
ــ المغرب والجزائر أكثر من دولتين جارتين.. إنهما توأمان متكاملان.
ــ عدم مسؤولية الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ولا الملك محمد السادس، ولا الرئيس عبد المجيد تبون عن غلق الحدود.
ــ أسباب غلق الحدود تجاوزها الزّمن، ولا مبرر اليوم لاستمرار الغلق.
ــ نحن إخوة فرق بيننا جسم دخیل، لا مكان له بيننا
ــ المغرب والجزائر لا يتبادلان الشر والمشاكل، ولا خطر على الجزائر من المغرب والعكس صحيح.
ــ المغاربة لا يعاونون من الفقر نتيجة غلق الحدود، ولا يعيشون على التهريب عبرها.
.ــ الجزائر والمغرب كالجسد الواحد، وما يمسهما واحد.
ـــ أمن الجزائر واستقرارها، وطمأنينة شعبها، من أمن المغرب واستقراره.
ــ عصابات الهجرة والتهريب والمخدرات، والاتجار في البشر، هي العدو الحقيقي والمشترك بين البلدين.
ــ التأسف للتوترات الإعلامية والدبلوماسية، التي تعرفها العلاقات بين المغرب والجزائر
ــ الدعوة لتغليب منطق الحكمة، والمصالح العليا لتجاوز الوضع المؤسف الحالي.
ــ دعوة الرئيس الجزائري، للعمل سويا، في أقرب وقت يراه مناسبا، على تطوير العلاقات الأخوية بين الدولتين.
لمن تفتح الحدود؟.. وكيف؟
كل النقاط السابقة أعلاه التي جاءت في خطاب الملك محمد السادس، تدور حول موضوع واحد هو فتح الحدود، مع عدم التزام المغرب بأي شيء، فكيف يعتقد حدوث ذلك في الوقت الراهن؟، وهو من فعل الآتي:
ـ غيّر في الجيران، حيث قضينا آلاف السنين نحن والمغاربة شعبا واحداً، فأدخل بيننا إسرائيل، وجعلها جارا لنا.. أليس هو من يرى في جالية اليهودية في إسرائيل جزءاً من رعايا أمير المؤمنين.
ــ غَيّر مكان العاصمة المغربية” بحيث أصبحت اليوم” العيون” بدل الرّباط.
ــ احتمى بدول العالم ــ بما فيها العدوة لنا ـ للضغط على الجزائر وتغيير خريطة المنطقة.
ــ دعا جهارا إلى ضرب الوحدة الوطنية بتقديمه مذكرة لدول عدم الانحياز تخص” القبايل”
ــ يحرك حاليا دول أفريقيا الغربية من أجل الوقوف معه ضد الصحراء الغربية، ودعم الوجود الإسرائيلي في الاتحاد الأفريقي.
ــ تحالف مع” الناتو” علانية ضدنا، ويجري المناورات مع قوى خارجية، وبنى قواعد عسكرية على حدودنا.
بعد هذا كله نسأل الملك محمد السادس: أليس اجراء أيّ تقارب يتطلب الأول تصفية الأجواء؟.. طبعا هذا لم يحدث، وبناء عليه فإن، خطاب العرش، هو فرار من واقع مؤلم أدخلتم المغرب والجزائر والمنطقة كلها فيه، ومع ذلك وضمن محبة خالصة، وأخوة إيمانية وقومية، فإننا نفترض أن دعوتكم في خطابكم صادقة، عندها ألا يكون الأولى أن تتم ضمن الأعراف الدبلوماسية؟.. فقصر” المرادية” معروف، وهناك يُصْنع القرار، وقد لا يرى الرئيس عبد المجيد تبون في خطابكم السياسي الاستهلاكي للداخل، أو لتبرئة الذمة أمام الخارج، مَدْخلاً لحل المشكلات الحقيقية بين البلدين.
أما نحن أبناء الشَّعبين ـ الجزائري والمغربي ـ فإنه يأخذنا الحنين إلى تقارب، يفرُّوا فيه السياسيون في الدولتين إلى الله، على أن لا يكون إِلِهَهُم هَوَاهُم، وأن لا يتخذوا من دونه وليّاً.. لقد مللنا في الدولتين خلافاتكم العميقة.. نُشْهِد الله على أفعالكم، وندعوه جلَّ في علاه أن يغير من أحوالنا وأحوالكم.
الرئيس والملك.. الكر والفر
