بقلم: د. حمود صالحي
تعد الحسابات السياسية الدافع الأساسي وراء موافقة المملكة المغربية على تعيين ستافان دي ميستورا كمبعوث خاص للأمم المتحدة إلى الصحراء الغربية والتراجع عن موقفها السابق المعارض لهذا التعيين. ويأتي هذا ضمن سلسلة من المواقف المرنة التي تخذها المغرب خلال الأشهر الماضية كتكتيك سياسي لإعطاء صورة عن نظامه بأنه يسعى إلى حل سياسي للقضية الصحراوية بدون أن يعترف بالحق الشرعي للشعب الصحراوي في تقرير مصيره. ويأتي أيضا نتيجة الضغوطات التي مورست عليه لإعادة النظر في ضم الصحراء الغربية لسيادة المغرب وإدراجها في اتفاقيات دولية كأمر واقع وانتهاك للقانون الدولي. وهدف المغرب الرئيسي هنا هو استغلال هذا التعيين لإدارة الأزمة التي يعاني منها واستعماله كأداة لايقاف أي حل للقضية الصحراوية خارج إطار الحكم الذاتي الذي يتبناه.
ولكن ليس من المستبعد أن يفشل المغرب في خطته هذه بسبب الضغوط الممارسة عليه من أطراف قضائية ودولية عديدة. فسياسة المرونة التكتيكية التي ينتهجها الآن يجب أن ترادفها مواقف عملية تؤدي في نهاية المطاف إلى استقلالية قرار الشعب الصحراوي في اختيار مصيره.
لقد كان على المغرب أن يوازن ما بين رفضه لتعيين دى ميستورا والاستمرار في مهاجمة الدول المتضامنة مع القضية الصحراوية، مخاطرا بزيادة تدهور علاقاته مع حلفائه واحتمال جر منطقة المغرب العربي إلى صراع مسلح لا يخدم مصلحته الإقليمية، أو قبول التعيين كتكتيك يسمح له تخفيف حدة التوتر السياسي و كسب الوقت لتحسين سمعته الدولية أمام الرأي العام العالمي.
لذلك تعتبر موافقة المغرب على تعيين دي ميستورا خطوة تكتيكية توازي الخطوات السابقة التي انتهجها المغرب منذ استغنائه عن خدمات شركة لوبيات أميركية في أوائل السنة الجارية بذريعة فشلها في كسب موافقة الكونغرس الأميركي على الاعتراف بضم الصحراء الغربية إلى المغرب بناءً على اعتراف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
بدأ الأمر باعتراف الرئيس دونالد ترامب بتوسيع حدود المغرب إلى الصحراء المغربية كفدية للتطبيع مع إسرائيل. فعوض الاحتفال بهذا الانجاز، وجدت المملكة المغربية نفسها في مأزق سياسي كبير تحت ضغط ردود الفعل الدولية التي وقفت مع الشعب الصحرواي ولم تعترف بالأمر الواقع الذي حاولت فرضه عليهم. ففي أميركا فشلت اللوبيات الأميركية في إقناع أعضاء الكونغرس الأميركي بالاعتراف، ولو بتغريدة في وسائل التواصل الاجتماعي، بالخريطة المغربية الجديدة، بل بارك هؤلاء تطبيعها مع إسرائيل بدون ذكر الصحراء الغربية. الشيء الذي أدى بالمغرب إلى إيقاف خدمات شركة جماعة ضغط كان متعاقدا معها للتأثير في الرأي العام الأميركي؛ على غرار تسويق أفكار دعائية تستهدف حركة البوليساريو بتصويرها منظمة إرهابية أنشأتها الجزائر لأغراض استراتيجية وحقدا على المغرب. وعندما قامت بعض دول أوروبا، مثل ألمانيا وإسبانيا، بالتأكيد على ضرورة احترام القانون الدولي في الشأن الصحراوي سارع المخزن إلى شتمها بلهجة ديبلوماسية “ترامبية” أدخلته في أزمة سياسية عرقلت أهداف ما كان يصبو إليه المغرب، وهو استعمال الاعتراف الأميركي كخطوة لغلق الملف الصحراوى كقضية سيادة داخلية تهم المغرب فقط. وحاول المغرب من منبر الأمم المتحدة أن يبني صورة عن قضية الشعب الصحراوى بأنها مسألة داخلية تهم أقلية تدافع عن حقوقها تحت سيادة المغرب مثلها مثل “الأقلية القبائلية” بالجزائر، وهو ادعاء رفضه المجتمع الدولي وأدخل المغرب في أزمة مع الجزائر.
وخلفية كل هذا أن المغرب كان ومازال في صراع مع وقت انعقاد اجتماع المحكمة الأوروبية في نهاية الشهر الجاري والتي من المرتقب أن تصدر قرارا بنقض اتفاقيتي الصيد البحري والزراعة اللتان أبرمهما المغرب مع الاتحاد الأوروبي وتنصان على شمل منتجات الصحراء الغربية كمنطقة مغربية. وما زاد في ضرورة اتخاذ المغرب قرار الموافقة هو رفض الجزائر أي وساطة في نزاع المغرب مع الجزائر أو ادخال ملف العلاقات المغربية الجزائرية في جدول أشغال الجامعة العربية القادم. كان المغرب ينوي قبول الجزائر بالوساطة كخطوة أساسية لإبعاد الرأي العام عن القضية الصحراوية تحسبا لما قد يحدث من آثار سلبية على غرار قرار المحكمة الأوروبية، وفي نفس الوقت، إضفاء الشرعية الدولية والعربية على موقفه المعادي للجزائر.
لذلك جاءت موافقة المملكة المغربية على هذا التعيين بناءً على معطيات فرضتها تطورات ميدانية أصبحت تخشى أن تزرع شكا آخرا في مطلبها بالسيادة الوطنية على الصحراء الغربية، خاصة مع قرب موعد انعقاد اجتماع المحكمة الأوروبية. وبالتالي، أختار المغرب التراجع تكتيكيا ومؤقتا حتى يسمح له بالبقاء كعضو فعّال في التأثير على معطيات الأحداث في الشأن الصحراوي وعلى غرار موقفه الاستراتيجي الأساسي الذي لم يتغير، والذي كان دائما ضم الصحراء الغربية إلى حدوده. من هنا فإن الهدف الاستراتيجي الذي ستعمل المملكة المغربية في إطاره هو بناء تحالفات جديدة لتوسيع اعتراف الدول بحدودها الجديدة، على غرار قرار اعتراف الرئيس الأميركي ترامب بها، مع إبقاء مفاوضات الاعتراف بالحق الصحراوي في إطار مشروعها التوسعي الهادف إلى ضم الصحراء الغربية كمقاطعة مغربية تحت الحكم الذاتي.
لهذا، لا يستبعد أن التكتيك المغربي سينصب على خلق كل العراقيل أمام الأمم المتحدة ومواصلة تعكير علاقاتها مع الجزائر تحت ذريعة أنها المسؤولة على تدني الأوضاع في المنطقة المغاربية وأن المسألة الصحراوية مجرد قضية داخلية مغربية يمكن حلها في ظل مشروع الحكم الذاتي الذي ترفضه الجزائر.
تعوّل المغرب في نجاح تطبيق استراتيجيتها التوسعية على تجاربها السابقة التي أثبتت بأن تعيين مبعوث خاص للأمم المتحدة بدون خلق آليات لتطبيق القانون الدولي لممارسة الشعب الصحراوي حق تقرير مصيره بنفسه ستؤدي إلى الفشل والإبقاء على الأمر الواقع. وهذا ما تسعى إليه المملكة المغربية بسعيها لكسب الوقت حتى لا تخضع لضغوطات دولية قد تؤدي إلى إفشال مشروعها التوسعي المخالف للقانون الدولي. تبدو مهمة المبعوث الأممي الجديد صعبة للغاية لكونها مليئة بالعراقيل، غير أنه بإمكانه أن يتجاوزها من خلال الاستفادة من تجارب سابقيه والاستعانة بالضغوط التي يجب تكثيفها أكثر الآن تجاوبا مع مرونة تكتيكات المخزن. وللحديث عودة.
الدكتور حمود صالحي. لوس أنجلس، كاليفورنيا.