عمدة نيويورك بين الحلم الأمريكي وواقعية الـ«استبليشمنت»

بقلم: جمال بن علي

تشهد مدينة نيويورك في دورة الانتخابات الحالية تحوّلاً لافتاً في المشهد السياسي الأميركي: مرشّح من أصول مسلمة يسعى للوصول إلى منصب العمدة، في تجربة تجمع بين الطموح الشخصي وتجسيد الحلم الأميركي من جهة، وبين مواجهة واقع المال والنفوذ السياسي، أو ما يُعرف بـ«الاستبليشمنت» من جهة أخرى.
المرشح هو زهران ممداني، نائب في برلمان ولاية نيويورك عن الحزب الديمقراطي، وناشط تقدّمي ينحدر من عائلة مهاجرة من جنوب آسيا.
يُعد ممداني أول مسلم يُرشّح نفسه فعلياً لمنصب عمدة نيويورك عن الحزب الديمقراطي، ما يمنحه رمزية خاصة في بلد يقوم على مبدأ التنوّع والفرص المتكافئة.
بنى ممداني حملته الانتخابية على فكرة “استعادة نيويورك من أصحاب النفوذ المالي”، ورفع شعارات تُخاطب الطبقات المتوسطة والفقيرة، مثل تجميد الإيجارات، وتوسيع النقل العام المجاني، والحد من هيمنة الشركات العقارية الكبرى التي تُمسك بمفاصل السوق السكني في المدينة.

الحلم الأمريكي… ووجهه الجديد

بالنسبة لممداني، الحلم الأميركي لا يعني الثراء الفردي أو الصعود الطبقي فحسب، بل العدالة الاجتماعية وتمثيل الهامش والمهاجرين في صلب القرار السياسي.
فأن يترشّح مسلم من أصول مهاجرة لمنصب عمدة نيويورك – المدينة التي تُعد قلب الرأسمالية والإعلام العالمي – يعني أن التنوّع لم يعد مجرد شعار، بل تحوّل إلى حقيقة سياسية تعبّر عن تحوّلٍ ثقافي عميق داخل المجتمع الأميركي،و الجيل الجديد من السياسيين
واقعية الـ«استبليشمنت»… حين يصطدم الحلم بجدار المصالح
لكن هذا الحلم الطموح يصطدم بما يُعرف في الأوساط السياسية الأميركية بـ«الاستبليشمنت»، أي منظومة النفوذ المالي والسياسي والإعلامي التي تتحكم في مفاصل الحزب الديمقراطي والإدارة المحلية.
فتمويل الحملات الكبرى، ومساندة الإعلام المؤثر، وتحالفات الشركات العقارية والمصارف، كلها عناصر تُرسم بها ملامح الفوز والخسارة في الانتخابات الأميركية.
وممداني، برؤيته التقدمية ونقده الصريح للوبيات المال، يواجه تحدياً حقيقياً في اختراق هذه البنية الصلبة التي قلّما تسمح بصعود وجوه مستقلة مقربة أو متعاطفه مع المراكز الإسلامية و المساجد أو خارج الدوائر التقليدية. بعيدا عن أيباك و نفوذ أباطرة المال و الأعمال من صفوة المجتمع النيويوركي المقسم بين الأحياء الإيطالية العريقة و العائلات الإيرلندية واجهة نيويورك
يبقى السؤال الجوهري: هل تصمد شعبية ممداني المتينة في قواعد كوينز، وهالرم و بروكلين، وجامايكا، وبرونكس أمام شوارع وأرصفة مانهاتن، وبرودواي، وتايمز سكوير، وأثرياء لونغ آيلاند؟
فما بين الطبقات العاملة والمهاجرين الذين يرون فيه وجهاً يشبههم، وبين نُخب المال والإعلام التي تنظر بريبة إلى خطابه اليساري، تقف نيويورك في مفترق طرق اجتماعي وسياسي حادّ.
المعركة لا تُقاس بعدد اللافتات الانتخابية، بل بمدى قدرة المرشح على اختراق “الرمزية” التي تُمثلها مانهاتن — مركز القرار المالي والإعلامي للولايات المتحدة.
من بين الملفات الحساسة التي تُطارد ممداني، موقفه من القضية الفلسطينية وعلاقته بمسألة الدعم الأميركي لإسرائيل.
فهو من الأصوات القليلة داخل الحزب الديمقراطي التي تجرؤ على انتقاد السياسات الإسرائيلية علناً، الأمر الذي جعله هدفاً لحملات ضغط قوية من جماعات نافذة ترى في مواقفه “خروجاً عن الإجماع الأميركي”.
وهكذا يتحوّل موقف مبدئي من العدالة وحقوق الإنسان إلى اختبار سياسي صعب، يختصر مأزق كل من يحاول الجمع بين المبادئ الأخلاقية والحسابات الانتخابية في الولايات المتحدة.
ترشّح زهران ممداني لمنصب عمدة نيويورك ليس مجرد حدث انتخابي؛ بل هو مرآة تعكس جدلية عميقة بين الحلم والواقع، بين المثال الأميركي في التنوّع والمساواة، في دولة متعددة الأعراق و الأجناس و الديانات وواقعية الاستبليشمنت الذي يحدّد من يحق له أن يحلم ومن يُسمح له بالوصول و تحقيق حلمه.
قد ينجح ممداني أو يخسر، لكن مجرّد دخوله هذا السباق يعني أن السياسة الأميركية بدأت تفتح نوافذها لأصوات جديدة تُعبّر عن الوجه الآخر لأميركا… أميركا القادمة.و ليست أمريكا العائدة

Exit mobile version