هيكل والقاسم.. إعلام النجومية

أحجار الوادي
هيكل والقاسم.. إعلام النجومية
خالد عمر بن ققه
” حين يصل مجرى الوادي إلى نهايته، وتبلغ حملته ـ غير السياسيّة ـ ذروتها، ويتَّخذ طريقه القَدَري في تكرار شبه أبدي في مرحلة ما بعد الغدير وصوته، نحو عودة تنتهي إلى تكريس البداية حين كان خالياً إلا من أحجاره، تكون هذه الأخيرة هي الثابت الوحيد، وعلى مِثْلها يمكن أن نقيس ثوابت الجغرافيا، وحوادث التاريخ، ومنظومة القيم، وعمق الإيمان، وعلاقات البشر، ومستقبل الدول، ودور القادة، ومصير الشعوب، وحركة الزمن، ومسار الحياة.. هنا في هذه المقال كثير أو قليل من هذا وذاك”.
عندما سيطرت على ذهني فكرة الكتابة عن” نجومية الإعلاميين العرب” وجدت نفسي في حيرة، فرضتْها عنّي الأسئلة الآتية: تُرَى ما هي مُحدٍّدات النجومية؟.. أَهِيَ التي تطرح ما يفيد الناس، فيغدو صاحبها مقبولا جماهيريّاً، أم تلك التي تتيح لقطاع عريض من الناس التعبير عن مواقفهم؟، ثم لماذا البحث ــ مقارنةً ـ مع أن كلَّ إعلامي يمكن أن يصبح نجماً في مجاله، وموطنه، مع الأخذ في الاعتبار ظرفي الزمان والمكان؟
مَا كانَ لِزَاماً عليَّ، وما ينبغي لي، تقديم إجابة جاهزة لتلك الأسئلة، بعد أن عقدت العزم على المقارنة بين الكاتب الصحفي الكبير المصري محمد حسنين هيكل، والنجم التلفزيوني السوري فيصل القاسم، دون التعمق في فهم موضوع المقال، حدوده نفسي وعقْلي أوّلاً، ومطالعاتي ثانياً، والاستعانة بالخبراء ثالثا.
وإذا كان الذَّاتِي والموضوعِي قد أوْصَلاَني إلى قناعة بعينها، ستأتي مُنْسَابَةً من خلال التَّحليل، فإن مناقشة الخبراء وأهل الاختصاص، وبعض المتابعين، فتَّحَتْ ذهني في كثير من الأحيان، على حقائق كنت أَجْهَلُها، بدأت تُكسِّر قواعد” الباطن”، وتتمكن من” الاستيلاء” على الظاهر، وهذا منذ فترة قريبة، أي منذ سلكْتُ طريق” الاسترشاد” في اختياري لمواضيع وعناوين المقالات ـ التي أكتبها ـ بآراء خبراء في مجالات مختلفة.
لقد أقيمت عليّ منذ البداية ّحُجَّة عدم التوفيق المُسْبَق في المقارنة بين الإِعْلاميَّيْن الكَبِيرَيْن، حتى قبل البدء في كتابة المقال، ومع أنني لم أظهر أبعاد الفكرة كلها لمن استشرتهم، إلا أنني قُوبِلْت برفض وصل إلى درجة اتهامي” بإدخال الخير في الشر، والكلمة الطيبة بالصورة الخبيثة، وصدق الكلمات وجمالها كتابة بالصوت الصاخب المرفق بالصورة، والذي هو من أنكر الأصوات، والحيادية والموضوعية بالانحياز والتبعية”.
الفقيه.. والرَّاقصة
هكذا بَدَتْ سلطة” الأنا الجمعي”، في رفض المقارنة بين هيكل والقاسم، حتى لو جاءت من البداية لصالح هيكل.. لقد اعتبر كثير ممن اسْتَطلعْتُ آراءهم، أن المقارنة ظالمة وضيزى، خاصة من أولئك الذين استحوذ محمد حسنين هيكل على عقولهم ــ وأنا واحد منهم ـ بما قدمه من ابداع صحفي، دمج فيه الإبداع اللغوي بحوادث التاريخ، من خلال كتابة استنهضت الذَّوق العام، ووسّعت دائرة المقروئية، وأسّست لتقاليد إعلامية أحسب أنها ستُعَمَّرُ لعقود مُقْبِلَة، بما وفَره من معلومات، لم تُوَجَّهْ وقتها للقراء فقط، ولكن كان يَبْنِي عليها صَانِع القرار في مصر ــ وتحديداً الزعيم جمال عبد الناصرـ قراراته ومواقفه.
قد يُقْبَل هذا الموقف حين يصدر من أبناء جيلي، لكن المُدْهِش أن المقارنة رُفِضَت أيضا من الأجيال الجديدة، حتى إن احدى الصحفيات، ذهبت إلى القول:” مجرد المقارنة بين هيكل والقاسم يعتبر جريمة في حق الإعلام العربي، حتى لو نظرْت إلى الأمر من زاوية النجومية.. وإذا قُمْتَ بذلك فأنت مثل الذي يقارن بين الفَقِيه الوَرِع والرَّاقصة المبتذلة.. ولتَعْرِف ذلك جيِّداً، اقرا ما كتبه هيكل أو ما رواه في البرامج التلفزيونية وبين اللغة التي يستعملها فيصل القاسم في برنامجه الاتجاه المعاكس، خاصة بعد أن حول برنامجه إلى معارضة للنظام السوري، ثم سيطرت عليه فكرة الانتقام، فصار معارضا للجميع..”
إن مواقف الأجيال المختلفة من المقارنة بين هيكل والقاسم ـ بما فيهم جيلي ـ تُقِيمُ حظْراً مُسْبَقًا على أيِّ تفكير نقدي، وهي بذلك تُعَمِّق مأساتنا في مجال الحريات، خاصة حرية التعبير، وهي هنا تَشِي بتطرفٍ فكريٍّ يبلغ درجته القصوى حين يصل إلى النتيجة الآتية:
وصف” الماضي الهيكلي” بالجميل، وسيطرة فكرة المُقدَّس على كل ما هو ماضٍ في سياق ثقافة عربيَّة تصرُّ على أن تظل أسيرة الماضي، بغض النظر عن قبحه أو جماله، ومنها اعتبار البعض ما أنتجه محمد حسنين هيكل نوعا من الاتقان يرقى إلى درجة” التَّفَقُّهْ في الدين”، والقصد من ذلك” التفقُّه في الإعلام”، انطلاقاً من” القاعدة الخاصة بسؤال أهل الذكر”، كما في قول الله سبحانه وتعالى:” وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ( سورة النحل ــ الاية: 43).
ووصف” الحاضر القاسمي”، بطُغْيان الصوت والصورة، واتّخَاذهما سبيلاً لنشر المُدَنَّس، والقصد من ذلك غياب المصداقية والدقة، ناهيك عن نشْر الزيف والأباطيل، أي الفسوق الإعلامي، مما يستوجب تطبيق قاعدة التأكد من صدق الخبر والمعلومة كما في قوله تعالي:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ“( سورة الحجرات ــ الآية 6)
والواقع أن لكل مرحلة زمنيَّة إعلامها الخاص، الذي هو بالضرورة جزءٌ من الحالة السياسيَّة للدولة وللأمة، ومن هنا يمكن قراءة نجومية كلٍّ من هيكل والقاسم ضمن السياق التاريخي، لمسار الدول، ودور الإعلام في التوجيه، وموقع الشعوب تأثيراً وتأَثُّراً، وعلى هذا الأساس يمكن الاقتراب من فهم نجوميتيها، وهذ قد يُقْبل أو يرفض من القراء
النّجم الأوحد
علاقتي بكتابات الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل تعود إلى أكثر من أربعة عقود، وذلك منذ أن منّ الله علي بمعرفة أستاذي الراحل” أحمد سيساوي” ـ رحمه الله ـ أستاذ التاريخ في جامعة قسنطينة، ومن خلاله تعرفت على الدكتور عبد الكريم عون ـ أستاذ الجغرافيا ـ وأيضا أستاذي في الرياضات الدكتور محمد عمر، الذي كان ـ رحمه الله ـ يدرس لي مادة الرياضيات في معهد علم الاجتماع، وبعدها صرت أزوره في بيته بالدقي، في شارع نويبع ـ القاهرة ـ حين سجلت في الدراسات العليا بكلية الآداب ـ جامعة القاهرة.
المهم أن الدكاترة الثلاثة ـ سيساوي، وعون، وعمر ـ عرَّفُوني على كتابات هيكل، ومنذ 1979، وأنا أقرأها إلى الآن، وكم كنت تمنَّيْت مُحَاورته، ولكن لم أوفق لأسباب يطول شرحها، وانتهيت من قراءاتي المتراكمة لكثير من كتبه، ومن الحوارات التي أجْرِيت معه، ومن شهاداته التاريخية، خاصة تلك التي بثَّتْها على حلقات قناة” الجزيرة” إلى جملة من عوامل نجوميته، أذكر منها ثلاثة أساسية على النحو الآتي:
أولا ـ الموهبة الربانية في الكتابة، وما تبعها من جودة واتقان.
ثانيا ــ فضل مصر ـ مكاناً وانتساباً ـ حيث أن النشأة في بيئة قوية يساعد على النجومية.
ثالثا ــ العلاقة بالزعيم جمال عبد الناصر، وما تبعها من الحصول عن المعلومات، وما نتج عنها من دعم ونجاح عند التطبيق.
وبغض النظر عن تقديم سبَبٍ عن الآخر، أو اعتبار أحدها أكثر تأثيراً، فإنها مجتمعة كانت سَبِيلُه للنجاح، هذا في فترة ساد فيها ما يعرف بـ” النجم الأوحد” في مختلف المجالات.
لفقد كان هيكل في نجومية يُشرِّع إعلاميّاً للفكر القومي العربي، ببعده الناصري وقيادته المصرية، وهو بمقاييس عصره كان محقا في ذلك، لكن ذلك تَبِعَتْهُ حالة من الوهن العام للإعلام العربي، حيث تمَّ الاكتفاء بهيكل فكراً وخطاباً ووجوداَ محليّاً وعربيّاً ودوليّاً، ذلك لأن النجومية هنا ما كانت لتقبل بوجود شريك أو منافس حتى داخل مصر نفسها.
كل ذلك كان يحدث في ظل تنامي فكرة الزعيم القومي جمال عبد الناصر، وتحويلها إلى حرب سياسية، طغى عليها لجهة صناعة الفعل، تصدير الثورة، وتصنيف الأنظمة العربية إلى تقدميَّة ورجعيَّة، أو تابعة وغيرُ منحازة، ونشر خطاب الانقسام من حيث السعي النبيل للوحدة العربية، والتدخل ـ السافر أحيانا ـ في شؤون الدول العربية الأخرى، وبداية تشكل عداوات عربية أتت أكلها في عقود لاحقة.
هيكل الاختراق
من ناحية أخرى، فإن علاقة هيكل بالرئيس عبد الناصر، مثار للدهشة، وجديرة بالدراسة والبحث، حيث لم يكن هيكل، يعتبر عبد الناصر مصدرا للمعلومة، كما لم ير عبد الناصر في هيكل بوقا للخطاب الرسمي ببعديه الوطني( المصير) والقومي( العربي)، ولكنها كانت علاقة تكشف عن تداخل بين السياسة والإعلام، وبين القيادة والصحبة، وبين السلطة والنخبة، وبين الزعيم والشعب، وبين تصدير مصر قائدة والاعتراف بشرعيتها .
وحين نحاول تأمل مشهد تلك العلاقة، أثناء حياة عبد الناصر وبعد وفاته، وحتى بعد رحيل هيكل، ستبدو لنا عصيَّة عن التكرار مرة أخرى، ذلك لأنها علاقة قامت على” الاختراق” في مَجَالَيْ السياسة والإعلام.. اختراق كل منهما لمجال الآخر، مع الحفاظ على خصوصية، وهذا قَلَّ مثيله عالميّاُ ـ في حدود معلوماتي وقراءاتي ـ مع أن هناك علاقات قائمة بين الرؤساء والصحافيين في عدد من الدول، وخاصة الولايات المتحدة، لكن سيطرت عليها فكرة” مصادر المعلومات”، وهي بلا شك مطلوبة وعلاقة سوية، وهذا على خلاف العلاقة بين عبد الناصر وهيكل.
والمُدْهش في تلك العلاقة أن الاختراق تمّ بعيداً عن الاحتراق، خاصة من طرف هيكل، وأتصور أن تلك العلاقة من أهم ما أبدعته العبقريّة المصرية ـ سياسيّاً وإعلاميّاً ـ في العصر الحديث، وتحديداً في العقود الستة الأخيرة، وأرى مصر اليوم عاجزة عن تقديمه، والسبب ـ في نظري ـ يعود إلى تغير التفكير السياسي على مستوى صناعة القرار، حيث حلت التبعية الإعلامية بدل الاختراق.
لقد تمكَّن محمد حسنين هيكل من أن يكون نجْماً في سماء الإعلام العربي، وجعلنا نقتنع ــ ولو لسنوات ـ أنه يمكن إقامة علاقة سوية وحرة بين الإعلاميين والسياسيين، دون خوف الفريق الأول من عبودية وسيطرة وانتقام الفريق الثاني، وأيضا دون قلق السياسيين أو انزعاجهم من منافسة الصحافيين والكتاب لهم في مجال النجومية، على النحو الذي نعيشه اليوم.
أرى أن هذا النَّوع من العلاقة لن يتكرر في حياتنا العربية، لأننا في حالٍ من التَّراجع، فلا السّاسَة قادرين على هجوم النجومية بكل أنواعها بعد أن فقدت قيمتها، ولا الإعلاميون قادرين على التفكير بعيداً عن قهر الحكومات والأنظمة، وبين” سَاديَّةَ السياسيين“، و” مازوشية الإعلاميين” تتشكَّل اليوم حياة أخرى مختلفة، شعارها اليوم” سيدي الرئيس“، وهذا الأخير يقول:” كلبي الإعلامي“، وما بينهما” عظم بدون لحم”.
” أساهي”.. وهيكل
نُجُوميّة هيكل لم تكن مصريّة أو عربيّة فقط، بل كانت عالميَّة أيضا.. للتَّدليل عن ذلك أروي هنا موقف جريدة” أساهي” اليابانية من كتابات هيكل، فقد كان أحد كتّاب الرأي فيها، وحدث أنه في العشرية السوداء في الجزائر، كتب مقالاً اتَّهم فيه الجيش الجزائري بارتكاب مجازر ضد المدنيين الأبرياء العزل، وهذا مثّل إجابة لسؤال مفاده:” من يقتل من في الجزائر؟”، وذلك حين بلغت الحرب الإرهابية ضد الجزائر أَوْجُها، ولأنني كنت أكتب تقريرا أسبوعيا لجريد أساهي حول الجزائر خاصة ودول العالم المغربي عامة، فقد طلبت مني سفارتنا في مصر الرد عنه بعد أو وصلها مقال هيكل من سفارتنا في اليابان.
عرضت الأمر، على مدير المكتب الإقليمي لجريدة أساهي في القاهرة، وأخبرته أن ما جاء في مقال هيكل غير صحيح، ويمثل اتهامات باطلة للجيش الجزائري، وبناء عليه سأرد من خلال مقال أو تقرير عنه، يفنِّد مزاعمه.
رد علي مدير مكتب أساهي، قائلا:
ــ بالنسبة لي لا مانع عندي، لكن هذا الأمر يعرض على إدارة التّحرير في طوكيو.
انتظرت أياما قليلة، وجاء الرد بالرفض، حينها اجتمع معي مدير مكتب أساهي في القاهرة، وقال لي:
ـ” نحن في أساهي نعتبر محمد حسنين هيكل صحافيّاً كبيرا، وله من المهنيّة ما يجعله متأكّداً من معلوماته، وهو يكتب معنا منذ سنوات، ولم يثبت أن جاء تحليله خاطئاً، وعلى فرض أنه مخطئ في مقاله عن الجيش الجزائري، فلا يمكن لنا أن نطعن في ذلك عبر مقال آخر صحيح لكاتب لا يزال جديدا في التعامل معنا.. إننا نفضل الابتعاد عن تشويش القراء..”
ثمّ توقف مدير مكتب أساهي برهة عن الحديث لما يقارب الدقيقة، ثم أضاف:
ــ أننا نتعامل معك باعتبارك رئيس تحرير سابق، ونقدر معلوماتك ومهنتيك وصدقك، وقد زودتنا مقالاتك حول الجزائر بفهم واسع خلال السَّنتيْن الماضيتين، غير أننا ننبهك إلى أمر هام، هو: أنه لا وجه للمقارنة بينك وبين هيكل.. والسؤال هنا من تكون حتى تُفنِّد أو تَنْقُد أو حتى ترد على مقال هيكل؟
لا أخفيكم لقد خرجت من مكتب جريدة أساهي في القاهرة، وأنا أحمل شعورين متناقضين، الأول: شعوري بالإهانة كون أنني لم أصل بعد إلى مستوى هيكل حتى أرد عليه، والثاني: سعادتي الغامرة وأنا أستمع لرأي اليابانيين في هيكل.. فهو في النهاية صحفي عربي، تخطت شهرته وتأثيره الوطن العربي إلى العالم كلّه.
جيل الاتجاه المعاكس
تلك هي نجومية هيكل.. فماذا عن نجومية فيصل القاسم؟
بداية علينا الاعتراف جميعا، خصوصا عناصر النُّخب العربيَّة، وبالأخص الذين شاركوا في برنامج” الاتجاه المعاكس” أن الدكتور فيصل القاسم ظاهرة إعلامية معاصرة، تكْمُن قوته الفكرية في تطويع الآراء والمواقف النخبوية لصالح العامة، ولذلك يحظى بمتابعة واسعة من كل الجماهير العربية، حتى من الذين ينتقدونه أو يتهمونه.
قد يعاب علي فيصل القاسم الشّطط وسفاهة القول في السنوات الأخيرة، نتيجة معاناته من النظام السوري، حين جعل من برنامجه منبراً لمعارضة الرئيس بشار الأسد، وأخلط بينه وبين معارضته للدولة السورية، معتقدا ـ وهو موجع ومتألم حتى العظم ـ أنه سيسقط النظام السوري، من خلال برنامج أو حتى قناة، ونسي أو تناسى متعمِّداً أنه كان يوما ما جزءا من ذلك النظام دفاعا، وخضوعا، وأحيانا تقديرا له واحتراما حين كانت تفرش له السجادة الحمراء كلما زار دمشق، ويستقبل فيها بطلاً وطنيّاً، مدافعاً عن سوريا إعلاميّاً في الخارج، أو على الأقل يحول دون الهجوم على نظامها.
لكن بعيداً عن هذا التقييم، فإن فيصل القاسم نجم أوحد في مجال الإعلام المرئي على مستوى العالم العربي، فإدارته لبرنامجه” الاتجاه المعاكس”، الذي عمره من عمر قناة الجزيرة، أثبتت أنه النجم بلا منازع، وكل من جاء بعده من مقدمين للبرامج التلفزيونية ـ بتعددها وتنوعها ـ هم مجرد نسخ مشوّهة منه، ولذلك لم تنجح برامجهم، ولن تنجح، ليست على مستوى التقديم فحسب، كما حاول بعض زملائه وأثبتوا فشلهم الذريع كلما جاءتهم فرصة تقديم الاتجاه المعاكس عند عطلته أو غيابه لأيِّ سببٍ كان، وإنما أيضا على مستوى طرح الفكرة.
المَلاَك الوحش
وعلى خلاف كثير من أولئك الذين يَمِيلُون، بل يُعْلنُون” شيطنة فيصل القاسم”، فأنني أراه، وبكل موضوعية، ومن خلال مشاركتي في برنامج الاتجاه المعاكس، في تسع حلقات متفرقة، منذ 2004 وإلى غاية 2017، جامعا بين نقيضين هما” الملائكيَّة”، و” التًّوحُّش“، وهو في الأولى على قدْرٍ عالٍ من الأخلاق، وفي الثانية، يبدو طاغية ــ لا يقل في شراسته على الحكام ـ في الصوت والخطاب وأحيانا الانحياز لهذا الطرف أو ذلك بقوة جاذبية الموقفين السياسي والأيديولوجي.
قبل بثّ برنامج الاتجاه المعاكس وبعده، يُحْرِج فيصل القاسم ضيفه بأدبه وأخلاقه العالية، وابتسامته التي تفارقه، فهو لديه مُقدَّر ومبجلّ، ومُكرّم، لا حظر أو منع لأيِّ فكرة يقولها، ومن كثرة حيائه تحمل اللغة لديه عند الخطاب حناناً جُعل فيه لسانه عن فؤاده دليلاً، وهو عادل ــ حسب تجربتي ـ مع ضيوفه لجهة الاتصال قبل البرنامج وبعده، ويصعب على من يلتقي فيصل القاسم أثناء قربه من الملائكيَّة أن لا يحبه أو يحترمه، وأحسب أن جمهور المشاهدين يأخذهم الشوق للجلوس معه لإحساسهم الصادق بأهميته في حياتهم الإعلامية المرئية.
لكن فيصل القاسم، الذي يحبه غالبية المشاهدين أو على الأقل يعجبهم أسلوبه في إدارة الحوار، وقد تكرهه أو تحسده عناصر النخبة والسياسيين، يتحول إلى وحش أمام الشاشة، وهو فيها لا يؤدي أدوراً بهلوانية، وإنما يسعى لتوصيل رسالة، يرى أن كلَّ شيء فيها مباح على مستوى اللغة والخطاب، وفي ذلك لا ينتصر لنجوميته، وإنما لفكره.
فيصل القاسم، يسعد باختلافك معه، شرط أن تكون مؤمنا بفكرتك ومدافعاً عنها، تماماً مثل سعادته بمن يؤيده في رأيه، لكن لا يرحمه ـ على الهواء ـ إن كان ضعيفاً، أو وعد قبل بث البرنامج برأي ثم جاء بما يخالفه بعد ذلك.. إنه مدرسة في إدارة الحوار بين المُخْتَلفْين أو المتناقضين، وله دور فاعل في الحياة العربية، تتجلَّى في اقترابه من الوسطيَّة في الطَّرح، ونجوميته، كلّفته كثيرا، وليس هنا وقت الحديث عن التكلفة الباهظة التي دفعها من عمره وجهده وأسرته.
ما بين النّجمين
بعد هذا كله ننتهي إلى القول: نحن اليوم على مستوى الإعلام في الوطن العربي، في حاجة الاستفادة من نجومية الراحل هيكل، والحي القاسم، مع ادراكنا أن لا تناقض بين النجمين لجهة التبعية للحكومات والنظم، والفرق بينهما في هذه المسألة، هو أن هيكل نتيجة الإعلام الحكومي الرسمي والقومي، وأنتهي به الأمر إلى أن يصبح مستقلا بعد ذلك مع حفاظه على توجهه، وفيصل القاسم هو الآخر ابن شرعي للنظام السوري، لكن هذا الأخير يعتبره عاقاً وضالاًّ سياسيّاً.. انطلق في عمله الإعلامي خارج سوريا بحرية نسبية، ثم أصبح تابعا للإعلام القطري عبر الجزيرة، ومن خلاله عارض نظام بلاده وشن حرب عليها تماما مثلما يفعل النظام القطري.
والحديث هنا يخص عرض تجربتي الرجلين عبر فهمي وقراءاتي، ولا علاقة لها باتخاذ موقف مسبق منهما، لكن علينا التصريح لا التلميح، أن برنامج الاتجاه المعاكس استفادت منه عناصر النُّخب العربية، بما فيها أولئك الذين ظهروا لأول مرة، وحرّك ــ كما يقول فيصل القاسم نفسه ـ المياه الرّاكدة، وخاطب معظم الجماهير العربية، ولذلك هو أكبر تأثيرا في” آنيته” على المشاهدين، أي أنه ابن الحاضر، لكن كتابات هيكل ستكون أكثر تأثيراً في المستقبل، لأن الأفكار المكتوبة تشكَّل مرجعية، على عكس البرامج التلفزيونية التي تعتبر شواهد.
تبقى نقطة أخيرة أن إعلام النجومية بين هيكل والقاسم، يُعيدنا من ناحية إنجازه إلى ذلك التأثير المصري والسوري من الناحية الأيديولوجية على العالم العربي، وقد يبدو غريبا قولنا: أن المستقبل للإعلام في الدولتين، سيكون متمردا على سلطة النظامين، أما إذا نال استقلاله الكلي، وهذا أراهُ منالاً بعيداً، فسنأخذ عندها وعداً من النجوم بالتغيير، لكن لن تقع حربا بين المرئي والمكتوب.
ويقيني أن العالم العربي كله لن يذهب في الإعلام بعيداً ما لم يعد” الشَّوام” لدورهم من جديد، سواء انطلقوا من دمشق وبيروت أو من القاهرة، إما بقية الدول العربية فستبقى متأثِّرة بنجوم الشام ومصر، حتى لو تمكَّنت من صناعة نجومها المحليين.. وما أكثرهم في الوقت الرّاهن.