من الذي يلعب مع عفريت القمقم ؟ !

مما لفت انتباه الذين تتبعوا المناقشات التي دارت حول الثقافة الوطنية تلك الإيماءات التي حاول أصحابها أن يفسّروا بها من طرف خفي التحرك الذي دعا إلى نوع من الخصوصية الثقافية للتمييز بها عن بقية الشعب الجزائري.
وقد لفت انتباهنا بصفة خاصة استعمال كاتبين لسلسلتين من المقالات، في مجلة “الجزائر الأحداث” ومجلة “الثورة الإفريقية” لتعبير واحد يستحق منا وقفة قصيرة لاستجلاء خباياه.
لقد استعمل الكاتبان تعبيرا من تعابير اللغة الفرنسية ، يمكن أن تكون ترجمته الحرفية “طلاب فن السحر” أو “المتعلمون لصناعة السحر” وهو تعبير يراد به الفرد أو الأفراد الذين يحررون طاقة حبيسة . ثم يعجزون عن السيطرة عليها كأنهم تلاميذ عند ساحر ماهر تعلموا منه بعض الطلاسم التي تحدث حدثا خارقا للعادة ، ولكن ليس لهم من العلم ما يمكنهم من التحكم في توجيه ذلك الحادث ، وتصريفه بما يخدم أغراضهم فإذا هو يأتي عليهم جملة من يأتى عليه.
وتقريبا لهذه الدلالة في التعبير العربي استعرنا لها صورة انسان مستهتر لا يقدر خطورة أفعاله حق قدرها . فهو لذلك يلعب مع عفريت مارد ،جبار ، حبسته طاقة عظمى في قمقم وما يلبث ذلك المستهتر أن يرتكب الخطأ الفادح بنزع سدادة القمقم وإذا بالمارد الجبار يبدأ به فيفعل فيه ما لا يخطر على بال …
ولكن ما هو يا ترى، هذا العمل الأخرق الذي ارتكبه بعض المستهترين من الناس اللاواعين في ميدان الثقافة الوطنية ؟
إن الجواب واضح كل الوضوح في سلسلة المقالات المذكورة إنه التعريب ! أجل إن التعريب هو المارد الحبيس الذي مكنته يد خرقاء، مستهترة، من مغادرة القمقم، فإذا نتائجه الوخيمة تملؤِ الدنيا صخبا في بعض مراكزنا الجامعية وتكتسح الشوارع في بعض مناطق الوطن وتمتد إلى الممتلكات العمومية بالتخريب والإتلاف.
ولسائل أن يسأل الكاتبين المحترمين : وكيف كنتما تتصوران – أعزكما الله – العمل لتلاقي ما آلت إليه الأمور من سوء المنقلب وبئس المصير؟
والجواب ، في ما كتب المحترمان ” يقرأ من وراء الكلمات ومما بين السطور وهو باختصار: لو لم نتحدث عن التعريب ولم نبسط القول في انتمائنا العربي الإسلامي ولم نلح على ما ارتكبه الاستعمار من آثام في حق الكيان والشخصية لظلت الأمور عندنا على خير ما يرام ولما طالب أحد بخصوصية ثقافية ولا شعر بأدنى حاجة إلى التحرك من أجلها.
تصوروا هذا المنطلق الذي تقيّم به الأمور ؟ ! وتصوروا هذا المنهج الفكري الذي يدعي القدرة على استشفاف الحقائق الوطنية ويكاد يعلن في كل مناسبة أنه وحده الآخذ بأسباب النظرة العلمية والطريقة الموضوعية وأن كل ما سواه تنطع عقيم وتهوية خرافية …
ولو أننا مضينا مع هذا المنطق إلى غايته في عينات أخرى من شؤوننا الوطنية لأفضينا بكل تأكيد إلى نتائج مضحكة – مبكية.
هل تدرون مثلا أن إعلان حرب التحرير وقيام ثورة الكفاح المسلح قد أفرزوا مجموعة من الظواهر منها ظاهرة “الحركى” وظاهرة الخونة وظاهرة المتآمرين؟ وكم كان يجدر بنا حسب ذلك المنطق أن نتفادى مثل هذه الظواهر بعدم اللجوء إلى محاربة الاستعمار ولا إلى مقاومته طوال عقود من السنين وبذلك لا يكون عندنا “حركى” ولا خونة ولا متآمرين !!
وهل تدرون أن تأميم المصانع والتوسع في القطاع العمومي وإشراف الدولة على التجارة الخارجية كانت كلها من العوامل التي أدت إلى سخط أرباب العمل وتذمر أصحاب المصالح ومعارضة الكثيرين ممن لا يؤمنون بهذا المنهج في التنمية الوطنية ؟
وحسب ذلك المنطق الأهوج، كم كان يليق بنا أن نتجنب سخط الساخطين وتذمر المتذمرين ومعارضة المعارضين بترك المصانع في يد أربابها الأجانب والمزارع في يد أصحابها المعمرين ويمكن أن نتابع مثل هذا المنطق إلى ما لا نهاية له من شؤوننا الوطنية.
إن الذين دعوا إلى التعريب وسعوا إلى تجسيد التدابير المتعلقة بتحقيقه والذين أعلنوا الثورة وكافحوا في سبيل انتصارها والذين عملوا من قريب أو من بعيد لتأميم المصالح التجارية الكبرى والمرافق الاقتصادية التي كانت ملكا لأقطاب الاستعمار والاستغلال في بلادنا هم كلهم حسب ذلك المنطق دائما من المستهترين الذين لعبوا مع العفريت المسجون في قمقمه الحصين فحرروه وكان منه ما كان …
لا نتصور منطقا من هذا النوع يحتاج إلى مزيد من التعليق لبيان مدى استهتار أصحابه بمقدسات هذه الأمة وأسس بناء هذا المجتمع الذي يتحدثون في كل مناسبة عن ضرورة قيامه على قواعد ثورية أصيلة، لكن المهم أنه على الرغم مما قد يبدو من التناقض بين موقفنا وموقف هذين الكاتبين فإننا نتفق معهما على الإقرار بالنتيجة التي وصلا إليها وأن كنا ننطلق من منطلقات متباينة.
فنحن نقول معهما نعم وألف نعم لو لم يطلق المارد من قمقمه لما افتضحت النوايا “المشبوهة” والتحركات القذرة، لو لم يصل الحديث عن التعريب إلى نقطة الحسم لما وجد أحد لدى تلك الأوساط في الفرنسة الطاغية ما يؤذي خصوصياته الثقافية ولما كان في ذلك لدى المحللين المحترفين وفلاسفة الأوهام ما يستحق أن يوصف بأنه لعب بالفنون السحرية.
ذلك أن التحرك سواء كان في الساحات أو في بعض سلاسل المقالات الصحفية هو تحرك الفرنسة في مواجهة التعريب وهو تحرك التغريب في مواجهة التأصيل الحضاري والفكري وهو في النهاية صدام لا بد منه بين الوطنية والاستعمار الجديد / القديم.