خواطر من الزمن الجميل..بقلم ياسين تاكليت

ياسين تاكليت
كاتب …بلا قلم
ذكرني أخي جمال بما كان في قديم الزمان…حين كنا نكتب و نستمتع بما تجود به الأقلام. كان الجو رائعا و زخات المطر الخريفية تستفز لدينا دواعي الإبداع .لكنني أتساءل. أين اختفى كل ذلك الوهج أين الأساتذة الكرام الصغير سلام و حسان زهار وجمال بن علي وووو…فالواقع اليوم إنهم كلهم يكتبون بلا أقلام و على روعة ما تبدعه مخيلاتهم ثمة نقص فادح في الإحساس بالحرف و الجملة و الفاصلة.
في أيام خلت كنا نكتب فننفث الحبر على الورق لصياغة ذاك النظام التسلسلي في أحاديثنا مع الذات. و اليوم أصبح كل شيئ يخضع لنظام الحاسوب و ليس لتداعي الأفكار…فالكاتب الصحفي اليوم لا يختلف عن السكرتير أو الكاتب العمومي..أصبح الحاسوب يتحكم في نفسية الكاتب المبدع فينظم فوضاه حتى تحول المنتوج الإبداعي بلا طعم ولا رائحة.
و الحقيقة انه و منذ أن أصبح نظام الكتابة مباشرة من الحاسوب تعطلت أقلامنا عن إبداعات زمان اللهم بعض الزخات المتناثرة في ربوع الوطن…ذلك أن الجميع اليوم يكتب و يعلق و يدون…و لا احد يحكم إمساك القلم مثل زمان.
فوجدتني خارج السرب أغرد وحيدا و الكل يسخر مني و أولهم أبنائي و السبب أني ما زلت تقليديا في الكتابة. فانفث الحبر أولا على الورق ثم اصب المادة في الحاسوب و هو ما يرونه مضيعة للوقت و الجهد.
تغير إذن الكثير من الأصل…ولم تبقى إلا الذكريات و الكواليس التي رافقت أعمالنا الشاقة بداية التسعينيات من القرن الماضي.حيث كنا نؤسس سويا للصحافة المستقلة بالجزائر و على هذا النحو لم يكن الأمر مجرد تعويض للقلم المقدس بالحاسوب بل هو طغيان التكنولوجيا على وقار النفسية المتزنة للمبدع…فقديما و لا أقول قديما جدا كان الكاتب يبدع و عون التصفيف يصب إبداعه في الحاسوب أما الجمع بين الوظيفتين فقد خلق التيه و الضياع.
و اذكر أيضا أن الكاتب قديما أي على أيامنا لم يكن يبحث عن المال او المجد بل كان يكفيه الاكتواء بجمر القلم و أوجاعه لأنه يحمل أثقال الرسالة قبل كل شيئ.و كان القلم المجسد بين أنامله المرتعشة ثقيلا فيتردد أكثر من مرة قبل أن يلطخ بياض الأوراق.
لذلك أسير اليوم كأني كاتب نسي قلمه في محفظته بدار الصحافة و تفرغ للقراءة ليتعلم العجب. تعلم ان الذين يكتبون لا يقرؤون و أن الذين يقرؤون لا يكتبون…وبينهما سواد أعظم لا يقرأ و لا يكتب..بل يمر مرور الكرام و ينقر إعجاب على أقصى تقدير
هذا الذي يدور بخاطري منذ مدة ليست بالهينة كيف تحولت منظومة الكتابة و القراءة إلى مجرد رهان على النقر بالإعجاب و كيف أصبح كم الإعجاب يحدد مستوى الإبداع.
كانت أي زميلة في تلك الإثناء تدعى خديجة..تقدم لي قهوتي كل صباح…وفي نهاية الأسبوع تدعوني و أخي سعيد مقدم للتوجه عاجلا للمسرح الوطني فثمة عرض مسرحي للأطفال لا يجب تضييعه…كنت أتابع
العرض مع الزملاء و مع هذه الطفلة المدللة فلا أكاد أجد الوصف الأنسب لطبعها الحضاري الراقي..فما كان يحكم بيننا أيامه هو الذوق الفني و الأدبي و ليس النقر بالإعجاب.
وذات صباح شتوي ماطر.كنت في مهمة بمدينة جيجل فاحتميت من شدة المطر بإحدى المقاهي الشعبية و كانت قناة ام بي سي هي الرائدة حينها.طلبت قهوة و ارتميت هناك قبالة الشاشة و إذا بالخارطة الجغرافية للجزائر تهيمن على الصورة و وسط الخارطة صورة خديجة الطفلة البريئة و الخبر مفاده…تم صباح اليوم اغتيال الصحفية خديجة دحماني من جريدة الشروق العربي ….
فإذا بي أعود لعرض الأطفال ذاك ذات خميس بالمسرح الوطني و كل جوارحي في ما تم تقول..إنا لله وإنا إليه راجعون.


