عبد القادر بن صالح و الندوة الوطنية 1994
نصف الحقيقة الأخرى
أصبحت اقلب طويلا في الدفاتر القديمة…تجربني اثر ذلك كل شوارع العاصمة..ويخرق سمعي أنين الناس…لله يا محسنين.
كان النادل الأحمق مندهشا و هو يلمح احدهم يكتب في المقهى الشعبي البائس…لكنه لا يعلم حتما إن الأماكن البائسة تعطي أحيانا للكتابة تلك الروح…اقصد الإبداع.
وصلت إذن إلى المحطة الأهم في تاريخ الجزائر السياسي…الندوة الوطنية في شهر جافي من العام 1994 . كل المعالم كانت تنذر بالانفجار…في تلك الأيام كان الانسداد السياسي قد بلغ أوجه. فالأزمة طالت و نفذ معها صبر الشعب الذي كان يظن يقينا إن إرادته صودرت…فيما وقعت السلطة الفعلية في أزمة حادة نتيجة صراع العصب و التيارات.
كنت حينها اشغل منصب رئيس تحرير أسبوعية العالم المعاصر و ما إن تلقيت الدعوة لحضور و تغطية الندوة الوطنية حتى شعرت بالقلق فمضمون الدعوة يمنع استعمال وسائل نقل المؤسسات الإعلامية أو الشخصية في التنقل إلى قصر الصنوبر البحري..كما يلزم الإعلاميين المعينين لتغطية الحدث بالتوجه إلي وزارة الثقافة و الاتصال لتجهيز الباج الخاص بالحدث.على ان يتم التنقل في الحافلات المؤمنة من طرف رجال الدرك الوطني إلى غاية مكان التظاهرة…من ضمن الإجراءات أيضا…عدم مغادرة قصر الصنوبر البحري لأي سبب حتى الإفراغ من الإشغال و العودة الجماعية إلى قصر الثقافة بنفس الإجراءات الأمنية.
كان الأمر مخيفا إلى حد بعيد وكان كل الزملاء يتساءلون عن فحوى هذه التعقيدات..كما علمنا حضور وسائل إعلامية دولية بحجم غير مسبوق لتغطية الحدث الأبرز عالميا.
و مضينا لأول مرة في موكب أعلامي لافت و رسمي حافلات محاطة بسيارات الإسعاف و الدرك الوطني..كنت حينها اردد بخاطري هل ستشهد الندوة حضور جميع أضلع الصراع بما فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ وجناحها المسلح….كان الأمر يبدو غريبا .خاصة إن معظم الأحزاب التي أعطت موافقة مبدئية بالمشاركة اشترطت مساهمة الجميع للخروج من النفق المظلم.لكن التيار الاستاصالي كان قد توغل وامتد نفوذه للخارج فهل سيرضى بالجلوس مع جبهة الإنقاذ للتفاوض…
في البهو الشاسع لصر الصنوبر البحري التف الإعلاميين بالشخصيات الوطنية و رؤساء الأحزاب بحثا عن التسريبات المحتملة حول حضور الحزب المنحل من عدمه…و كان الأمر استباقا في غاية الأهمية بالنسبة للطبعات المسائية و الحدث إن السلطة الفعلية حينها موهت بإحضار جماعة من الملتحين بالاقمصة السلفية المعهودة و سرعان ما انتشرت الإشاعات…ذاك فلان و ذاك فلان من قيادات جبهة الإنقاذ فتسرع مراسل يومية المساء مصدرا المضمون التمويهي تحت ضغط الوقت.
بعد كلمة الافتتاح أخليت القاعة من جميع الإعلاميين الحضور…و ما هي إلا ساعة زمن حتى خرج الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله معلنا انسحابه من إشغال الندوة و السبب حسبه عدم توفر الشروط المتفق عليها…عندها هاج القوم في كل الاتجاهات بحثا عن نصف الحقيقة الأخر..إلى إن خرج علينا أخيرا احدهم داعيا الأسرة الإعلامية للإصغاء إليه….لم أكن اعرفه لكن ملامحه توحي بالبراءة و الوقار….لذلك سألته بذات البراءة…ومن أنت…فقال عبد القادر بن صالح الناطق الرسمي باسم الندوة الوطنية
أعطى الرجل حصيلة رقمية عن الحضور و المشاركين لكن ذلك لم يعفيه من إلحاح الصحفيين عن الأحزاب التي لم تحضر أو تلك التي انسحبت قبل نهاية الإشغال.وكان جوابه أنها حاضرة من خلال مقترحاتها…قرأت هذا الجواب و إنا أتصفح كشكولي الخاص بمسودة الندوة الوطنية فضحكت طويلا و إنا اتامل مسار بن صالح السياسي انطلاقا من ذلك اليوم.حيث أفرزت الندوة تعيين اليمين زروال رئيسا للدولة…
عكفت هناك في البهو ..خارج القاعة اتالم و إنا الحظ تلك السيدة من عاملات النظافة بقصر الصنوبر البحري..تألمت كثيرا لأنها ما إن سمعت النشيد الوطني يدوي الأجواء في ختام الإشغال حتى وضعت الدلو و إغراض التنظيف جانبا و استعدت لنشيد قسما…
تأكد العبد الضعيف حينها إن الحقائق مجرد أنصا ف …نصف في القاعة و نصف في البهو…ونصف أخر خارج أسوار القصر.
