عامر وعمّار… المبتدأ واحد والخبر مختلف

بقلم الدكتور علي بن محمد
عامر وعمّار صديقان قديمان لم يمكن أي شيء أن يفرق بينهما وإذا كانا اليوم قليلا ما يلتقيان فقد تلازما سنين طويلة، حتى كان يُخيّل لكل واحد منهما أنه لن يحتمل العيش أسبوعا واحدا بعيدا عن الآخر.
والحق أن حياتهما التي أخذت الآن مجريين مختلفين كانت حياة واحدة يشتركان فيها، فلا يظهر عامر إلا ومعه عمّار ولا يُرى عمّار إلا ومعه عامر.
لقد ولدا في سنة واحدة، تفصل بينهما شهور قليلة ونشآ في حي واحد من أحياء العاصمة في بنايتين متجاورتين تقابل إحداهما الأخرى، حتى أن كلا منهما كان يستطيع أن يكلم الآخر إذا ما وقف في الشرفة ورفع الصوت قليلا.
أدركهما الاستقلال وهما صبيان يترددان على مدرسة ابتدائية واحدة وكثيرا ما كانا يدرسان في قسم واحد ويتناوبان على المنزلة الأولى في الترتيب، وانتقلا معا من مرحلة إلى أخرى فاجتازا المرحلة المتوسطة ثم المرحلة الثانوية وحصلا على شهادة الباكالوريا في الفرع الرياضي وكانا بحق “فرسي رهان” لا يبتعد أحدهما عن الآخر لا في الحياة العادية ولا في الحياة المدرسية.
وعندما حان وقت التسجيل في الجامعة اتفقا على الاختصاص الذي يواصلان فيه التعليم وكان حبهما لمادة الفيزياء بحيث جاء اختيارهما لها بصفة آلية ولم يتطلب منهما أي جهد خاص للتفكير والمناقشة.
ومرّت سنوات الدراسة الجامعية بما فيها من حلو ومر وقد أتاح لهما تضامنهما وحسن تعاونهما الفهم والمذاكرة وأن يستفيدا أقصى الاستفادة من أيامهما ونجحا في الإجازة بتقدير وذهبا ذات صباح إلى سحب وثائق النجاح وما إن تأمل كل ورقته وتمتع لحظات بالدليل المادي على النجاح حتى سأل عامر صديقه:
- يا عمّار، هل فكرت في العمل الذي تمارسه بفضل هذه الورقة؟
- هل تدري يا عامر أننا طالبان ناجحان ولكننا رجلان فاشلان من حيث التخطيط لمستقبلنا !إننا نعيش حياة واحدة منذ ستة عشر سنة تحدثنا خلالها عن كل شيء إلا عن العمل الذي نريد ممارسته.
- أظنك حشوت ذاكرتك بالفيزياء حتى لم تبق فيها مكانا لشيء آخر، أنسيت أننا تجاذبنا أطراف هذا الموضوع مرة عندما انتقلنا إلى التعليم الثانوي ؟
- صحيح ! تذكرت الآن ولكنها المرة الوحيدة ثم لم نتكلم وقتئذ بجد في هذا الموضوع، وأذكر أنك كنت تتحدث مازحا وقد ذهبت في الاستخفاف إلى حيث زعمت يومئذ أنك شديد الإعجاب بالأستاذ صيران وأنك تتمنى ان تصير مثله مدرسا للفيزياء في إحدى الثانويات.
- ها قد عادت إليك الذاكرة !أما أنت يا عمار فقلت لي وقتئذ أنك لا تحب التعليم وأنك تريد أن تكون “حضرة السيد المدير” في إحدى الشركات الوطنية.
- دعنا من خرافات الصبا والأحاديث الفارغة لتلميذين كانا يروِّحانعن نفسيهما من عناء المذاكرة والمراجعة وإن كنت أنا شخصيا أفكر بطبيعة الحال في طلب التوظيف لذى الشركة الوطنية … سونافيز.
- أما أنا يا سي عمّار، فقد فكرت طوال ليلة أمس حتى أصبت بأرق طويل واستقر الرأي عندي على أن أطلب التوظيف في … سوناتعليم!!
- أأنت جاد فيما تقول يا عامر ؟؟ !
- هو الجد بعينه يا عمّار، أنا أحب أجواء المدرسة وأحب أن أعيش مع شباب متجدد، أنا أكره حياة المكاتب حتى لو نوديت فيها صباح مساء “يا حضرة السيد المدير”
وافترق الصديقان عامر وعمار وبدأت لقاءاتهما تقل شيئا فشيئا حتى أصبحت نادرة حين شرع كل في ممارسة العمل الذي طابت له نفسه واختاره بمحض إرادته.
كان كل شيء يجمعهما فأضحى كل شيء يفرقهما، أجرة عامر لا تكاد تبلغ ثلث أجرة عمار وشغل عمّار شطحات لا يكاد يرى نتاج بين لها، أما عامر فلا يتأخر خمس دقائق عن مواعيد دروسه لأنه حين يتأخر دقيقة واحدة بعد قرع الجرس يبقى تلاميذه في الساحة ينتظرونه وهو لذلك بعد خمس سنوات من الأقدمية في منصبه لم يستطع الحصول على رخصة سوق السيارة ولا على سيارة، أما عمّار فهو “حضرة السيد نائب المدير” لا يدخل مكتبه إلا بعد التاسعة والنصف من صباح كل يوم، يأتي في سيارة سونافيز، ينتظره سائق سونافيز أمام المسكن الفخم الذي تدفع مبالغ كرائه المرتفع شركة سونافيز وتدفع أيضا نفقات الغاز والكهرباء والهاتف و … الخادمة.
أما الأستاذ عامر فهو مازال إلى اليوم يسكن مع أبويه وإخوته الصغار الخمسة الشقة نفسها التي كان يلاعب من شرفتها صديقه عمار إذ هما صغيران.
إن حضرة السيد نائب المدير إطار من إطارات الأمة –من فضلك- ! ويظهر كثيرا على شاشة التلفزة ويدلي بالتصريحات ويُرسل إلى الخارج في المهمات يقود الوفود ويبرم العقود، إنه باختصار رجل مشغول جدا لا يكاد يدخل المكتب حتى تتوالى عليه المكالمات، بعضها في الهاتف الأصفر وبعضها في الأزرق وبعضها في الأسود أما الأحمر فخاص بالحديث الهام حين يناديه حضرة السيد المدير العام.
كان الله في عونك يا أستاذ عامر ، أنت الذي يغطي غبار الطباشير لباسك وشفاهك وينعقد لسانك ويجف حلقك فلا تجد أمامك كأس الماء العادي لتستعيد به ما ذهب من نفسك وريقك، كان الله في عونك يا من احتقرت بريق الواجهات وصمدت في وجه المغريات، أنت تصنع الحياة فلا تحفل بمن يدق لها الطبول ويحشد لها المزامير.
أنت يا عامر لا تغبط عمّارافي شيء من نعمته لأنها اليوم كما كانت بالأمي ملك يديك ورهن إشارتك تدعوها لو تساء فتأتيك لكنك اخترت أن تحيا مع الحياة المتوثبة في جباه تلاميذك، فاصبر لتبعات اختيارك ولا بد لمبتدئك من خبر.