الطاقة المهملة

بقلم الدكتور علي بن محمد
من أبرز ما يلفت الانتباه، في الرقعة الواسعة المتخلفة من العالم ، أن الممارسة فيها تناقض كل يوم النوايا بكل حزم . وكأن الأفعال لا تصدر عن الناس إلا لتكون تكذيبا قاطعا للأقوال، وتلك علامة التخلف .
ومن تطبيقات ذلك أن الحديث عن الإنسان لا يكاد ينقطع، فهو القيمة العظمى ورأس المال الذي لا مثيل له ، والطاقة الخلاقة التي تصنع التقدم والازدهار وهو لذلك عامل رئيسي من عوامل التنمية ، وغايتها الرئيسية … وهذا كله كلام جميل للغاية من الناحية النظرية.
ولا تقف النظرية هنا ولكنها تصيب “كبد الحقيقة” كما يقال حين تتناول الإمدادات الطبيعية لها فتشدد في الجث على العناية بتكوين الإنسان، فبالتكوين وحده ينهض الإنسان بدوره في مخططات التقدم والازدهار.
أجل، إن التكوين وتكوين المكونين ومكوني المكونين سيهيئ للبلاد جيشا من أبنائها القادرين على التحكم في الإنتاج وفهم الأسرار التكنولوجية وترقية البحث العلمي … إلى غير ذلك من التعابير البراقة المغرية …
وبما أن لكل سياسة وسائلها اللازمة لنجاحها ولكل مشروع “غلافه” النقدي الضروري لنقله إلى حيز التنفيذ فإن بلدان العالم الثالث المتخلفة، الفقيرة تسارع إلى إبرام العقود وتوقيع الاتفاقات وتعبئة الموارد المالية طبعا لإيفاد شبابها إلى حيث العلم الراقي والتكنولوجية المتقدمة.
كل هذا عمل جليل وتصرف صائب، لا أحد يجد فيه موطنا للطعن أو المؤاخذة لو أنه تخلص من آفة واحدة تنخر أساسه وتقوض كل دعائمه : إنها الإهمال في أقبح صوره وأشنع مظاهره.
فالذين يُرسَلون لتلقي التكوين في الخارج يفقدون كل اتصال لهم ببلادهم بمجرد خروجهم منها وتبقى العلاقة الوحيدة التي تربطهم بها هي مبلغ المنحة الذي يصب لهم كل شهر أو كل ثلاثة أشهر في حسابهم الجاري ولا شيء غير ذلك، لا سائل يسأل عنهم ولا متفقد لأحوالهم ولا متصل بهم يتابع خطواتهم ويبقي على علاقتهم بالوطن، كل ذلك في وسط فيه من المغريات ما يسلب العقول والقلوب.
وتنتهي فترة التكوين فتجني البلدان التي تعرف قيمة الإنسان المكون دون أن تملأ الدنيا صخبا بالحديث عن ذلك تجنى الثمار اليانعة ، ذات القطوف الدانية ، فتكسب الطاقة البشرية المؤهلة و المدربة ، تلك التي اتفقت على تدريبها و تأهيلها دول العالم الثالث من مال السائل ، و المحروم و الجائع و المسلول و فئات أخرى من المعذبين لا تحصى و لا تعد.
تلك مصيبة نفدت في وصفها المحابر ، و ألف فيها من الكتب ما لا حاجة إلى العودة إليه. ولكن الذي هو أدهى وأمر أن نجد الفئة القليلة من المكونين العائدين الذين تحداهم الإغراء فصمدوا في وجه دواعيه ، و نصبت لهم شباك الصيادين المهرة فأفلتوا منها سالمين ، أن نجدهم في أوطانهم بعد العودة بطالين ، يترددون على المكاتب فلا يستقبلون ، و يكتبون إلى “من يعنيهم الأمر” فلا يجابون ! وكأن كل شيء يزهدهم في البقاء ، و يحثهم على الارتماء في الشباك راضين ، مستسلمين . و إلى الذين لا يتصورون حجم المشكلة، أسوق هذا النموذج للتمثيل على ما يقع من الغرائب.
كنت واقفا أمام مبنى الجامعة انتظر صديقا لم يحن بعد وقت وصوله، وإذا بشاب يتجه نحوي و على وجهه امتعاض إنسان مخدوع واقترب مني فبدا لي أنني أعرفه أو أنني على كل حال لا أراه لأول مرة، و لاحت منه نظرة خاطفة إلي فردها بشيء من الاشمئزاز وكأنه أنكر علي أن أحدق في وجهه بتلك الفضولية السافرة ثم رفع جفنه بسرعة و قد أدرك حقيقة من يحدق فيه ، فجاء إلي بابتسامة من يحاول أن يطرد الهم عن نفسه، لقد أسعفته ذاكرته بسرعة، فذكر اسمي وهو يمد إلي يد المصافحة، و سألني عن الصحة والأحوال، وأعطاني الدليل القاطع على أنه يعرف كل أخباري قديمها و جديدها. وعلم أنيى لم أتوصل بعد إلى استعادة ما ند عني من الذاكرة ، فأعادني إلى صوابي، وإذا به من صغار زملاء الدراسة، واستفسرته عن سبب الأسى الذي سكن كل ملامح وجهه فقال : أنهيت دراستي الجامعية قبل سبع سنوات ، و أرسلت إلى بلجيكا للدراسة العليا فنلت ، بعد ثلاث سنوات ، الماجستير. وعرض علي العمل هناك بشروط مغرية فقبلت، وعملت بضعة شهور ولكن ضميري لم يرحني ففسخت العقد وعدت إلى الوطن، فتقدمت إلى الخدمة الوطنية و أديت بها السنتين المطلوبتين و أودعت ملفي أطلب معادلة شهادتي و قبولي في الجامعة و ها أنا ذا منذ ما يقرب من سنتين أجري من مكتب إلى مكتب، وأقدم الملف تلو الآخر للجنة بعد أخرى ثم أضاف بمرارة ، أما زملائي الذين درسوا بفرنسا فقد سويت أوضاعهم عند أول اتصال !
انتهى