ما يجب أن يقال: ساركوزي ولعنة القذافي

ما يجب أن يقال: – بقلم: جمال بن علي
من البساط الأحمر في باريس إلى زنزانة سجن “لا سانتي”، تتجسّد مفارقة التاريخ: الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي يدفع اليوم ثمن حربٍ بدأها ضد من كان بالأمس ضيفه المكرَّم، العقيد معمر القذافي.
في ديسمبر 2007، كان نيكولا ساركوزي يستقبل العقيد معمر القذافي في باريس استقبال الملوك. فُرِش له البساط الأحمر في قلب العاصمة الفرنسية، ونُصبت خيمته الشهيرة في حديقة فندق ماريني قرب قصر الإليزيه، وأُبرمت اتفاقيات بمليارات الدولارات بين باريس وطرابلس.
كانت تلك اللحظة ذروة التقارب بين الرجلين، وصورة ساطعة لعلاقاتٍ تُبنى على المصالح أكثر من المبادئ.
لكن ما لم يكن يدركه ساركوزي آنذاك، أن البساط الأحمر الذي فرشه للقذافي، كان في الحقيقة بساطًا مفروشًا نحو الهاوية. فبعد أربع سنوات فقط، تحوّل الصديق الزائر إلى هدفٍ عسكري، عندما كان ساركوزي نفسه من قاد حملة حلف الناتو التي أسقطت نظام القذافي في عام 2011.
واليوم، وبعد أربعة عشر عامًا على ذلك المشهد المتناقض بين التحية والقصف، عادت لعنة القذافي لتطال ساركوزي بكل قسوتها. ففي 25 سبتمبر 2025، أصدرت محكمة باريس حكمًا نهائيًا يقضي بسجنه خمس سنوات، منها ثلاث سنوات نافذة، بعد إدانته بتهمة “التآمر الجنائي” وتلقي تمويل غير قانوني لحملته الانتخابية عام 2007 من أموال ليبية.
وفي 21 أكتوبر 2025، دخل نيكولا ساركوزي رسميًا سجن “لا سانتي” (La Santé) في باريس، ليصبح أول رئيس فرنسي سابق يُودع السجن منذ الحرب العالمية الثانية. مشهد رمزي يعيد كتابة فصول التاريخ السياسي الفرنسي بمرارة ودهشة.
القضية التي انفجرت منذ أكثر من عقد، لم تكن مجرد ملف قضائي بل ملحمة سياسية وأخلاقية تكشف الوجه الخفي للعلاقات بين باريس وطرابلس في زمن المصالح والمقايضات.
فالشهادات والوثائق التي ظهرت تباعًا، أكدت أن النظام الليبي قدّم دعمًا ماليًا سخيًا لحملة ساركوزي الرئاسية سنة 2007، مقابل وعود سياسية واقتصادية. غير أن تلك التحالفات سرعان ما تحوّلت إلى رصاصات في سماء طرابلس، عندما قرر ساركوزي المشاركة في إسقاط النظام الليبي سنة 2011.,بسبب رفض الراحل معمر القذافي شراء طائرات رافال الفرنسية و ألغى الصفقة التي وعد بها ساركوزي.فكانت إحتجاجات طرابلس و ذريعة لركوب موجة الربيع العربي المشؤوم و الإطاحاة بالقذافي إنتقاما منه سياسيا و تجاريا و ليس بحجة حماية حقوق الإنسان
هكذا، تتجسد المفارقة الكبرى:
الرئيس الذي استقبل القذافي كضيف شرف على البساط الأحمر، هو نفسه الذي أمر بقصفه بعد سنوات قليلة، ثم انتهى هو الآخر خلف القضبان. وكأنّ التاريخ يكتب سطوره الأخيرة بحبرٍ من السخرية السياسية الثقيلة.
إنّ ما يعيشه ساركوزي اليوم ليس مجرد نهاية لمسيرة سياسية، بل هو محاكمة رمزية للنفاق الغربي، الذي يتحالف مع الأنظمة حينًا ويدمرها حين تنتفي المصلحة.
ففرنسا التي قدّمت نفسها حاميةً للديمقراطية وحقوق الإنسان، قادت حربًا أطاحت بدولةٍ عربية، لترث بعدها الفوضى والانقسام والدم.
لقد تحوّل سقوط القذافي إلى مرآةٍ عاكسة لانحدار ساركوزي. كلاهما سقط بطريقته: الأول في رمال سرت، مغدورا والثاني في زنازين باريس. وبين السقوطين تمتد “لعنة القذافي” التي لا تزال تلاحق كل من شارك في تلك الحرب العبثية، سياسيًا أو أخلاقيًا أو حتى قضائيًا.
قد يدافع ساركوزي عن نفسه، وقد يظلّ يعلن براءته، لكنّ التاريخ كتب حكمه بالفعل:
أنّ الرجل الذي ساهم في إسقاط نظام القذافي، انتهى أسيرًا لفضائح ذاك النظام نفسه.
وهكذا، تظلّ لعنة القذافي تذكيرًا مؤلمًا بأن السياسة حين تُبنى على الخداع، فإنّ نهايتها لا تكون إلا خلف القضبان أو تحت الأنقاض.